سوريا- بين مطرقة الصراعات الخارجية وسندان الحلول الداخلية

في دهاليز دمشق العتيقة، حيث تمتزج نفحات الياسمين الزكية بعبق الغبار المتراكم، وبين جدران شامخة تحمل آثار ندوب الحرب العاتية التي استمرت لعقد من الزمن، يتردد سؤال جوهري على شفاه الناس: إلى أي مصير تتجه سوريا؟
هذا التساؤل لم يعد مجرد شأن داخلي يقتصر على حدود البلاد، بل بات مطروحًا بقوة على طاولات صانعي القرار في عواصم إقليمية ودولية مثل تل أبيب وأنقرة وواشنطن وموسكو وبكين وبروكسل. ومع ذلك، فإن الإجابات المطروحة حتى الآن تأتي في الغالب محملة بمصالح سياسية ضيقة، سواء كانت داخلية أو خارجية، مما يجعل مستقبل البلاد أسيرًا لمصالح متضاربة، بدلاً من مصلحة وطنية شاملة وموحدة.
من الحرب إلى التعقيد السياسي
منذ عام 2011، شهدت سوريا تحولات عميقة وجذرية، حيث تحولت من دولة مركزية قوية نسبياً، رغم كل التحديات التي واجهتها، إلى ساحة مفتوحة للتدخلات الإقليمية والدولية المتعددة. تعاقبت مراحل الصراع المأساوي: بدءًا من الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالإصلاح، مرورًا بعسكرة الثورة وتحولها إلى نزاع مسلح، ثم صعود الفصائل المسلحة المتنوعة، وصولًا إلى التدخلات العسكرية المباشرة من قوى كبرى وإقليمية ذات أهداف متعارضة.
واليوم، وبعد مرور أكثر من عقد على بداية الأزمة، تبدو البلاد أمام مشهد سياسي بالغ التعقيد، تتقاطع فيه إرادات الفاعلين الخارجيين مع تحديات الداخل المتراكمة، في مرحلة انتقالية عنوانها الأبرز هو غياب الحل الشامل والمستدام، وحضور الصفقات المؤقتة والحلول الجزئية التي لا تعالج جذور المشكلة.
إسرائيل، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وتركيا، وروسيا، وإيران… جميع هذه القوى تمتلك رؤى ومصالح متناقضة ومتباينة بشأن مستقبل سوريا ومصير شعبها:
- إسرائيل تركز بشكل أساسي على تحييد أي تهديد عسكري طويل الأمد قد تتعرض له، وتصر بإلحاح على إخراج إيران بشكل نهائي من المعادلة السورية، وتكريس ضم الجولان كأمر واقع لا رجعة فيه، ومنع أي تموضع تركي قد يقود إلى مواجهة مباشرة أو غير مباشرة في المستقبل.
- تركيا تنظر إلى الشمال السوري كمسألة أمن قومي ذات أولوية قصوى، فهدفها المعلن هو القضاء على التنظيمات الكردية المسلحة التي تعتبرها تهديدًا لأمنها القومي، وضمان نفوذ سياسي مؤثر في دمشق، وإعادة جزء كبير من اللاجئين السوريين المتواجدين على أراضيها.
- القوى الكبرى، المتمثلة في واشنطن وموسكو وبكين وبروكسل، تتفق ظاهرياً في العناوين العريضة المتعلقة بسوريا، مثل وحدة الأراضي السورية، وتحقيق الاستقرار النسبي، ومحاربة الإرهاب بجميع أشكاله، ومنع عودة استخدام الأسلحة الكيميائية المحرمة دولياً، وتجنب وقوع كارثة إنسانية واسعة النطاق. لكن هذه التوافقات الظاهرية سرعان ما تنهار أمام الاستقطاب العالمي الحاد، حيث يُنظر إلى أي تقدم أو تطور إيجابي في سوريا كخسارة محتملة لطرف ومكسب استراتيجي لآخر.
النتيجة المؤسفة هي أن البلاد تعيش في حالة من "التفاهمات المؤقتة" والحلول الترقيعية، بدلاً من "الإستراتيجيات طويلة الأمد" التي تهدف إلى تحقيق سلام دائم وشامل، مما يجعل أي إنجاز سياسي أو أمني هشاً وعرضة للتراجع والانهيار مع أي تغيير في موازين القوى الإقليمية والدولية.
لماذا الداخل هو نقطة البداية؟
بينما تبدو معركة كسب تأييد الخارج صعبة ومعقدة للغاية، فإن بناء جبهة داخلية متينة وقوية يعتبر أكثر قابلية للتحقيق إذا توافرت الإرادة السياسية الصادقة والعزيمة الوطنية:
- الشراكة الوطنية الحقيقية: تأسيس سلطة تشاركية حقيقية تضمن التمثيل العادل والمتوازن لجميع المكونات السورية المتنوعة، دون إقصاء أو تهميش لأي طرف.
- الإصلاح الدستوري الشامل: إقرار حقوق جميع المكونات السورية في دستور واضح وملزم، يضمن المساواة والعدالة للجميع.
- الإدارة المتوازنة للموارد والسلطات: اعتماد صيغة تجمع بين الحكم المحلي اللامركزي والسلطة المركزية القوية، مع توزيع عادل ومنصف للموارد والثروات بين جميع المناطق والمحافظات.
هذه الخطوات الأساسية لا تضمن فقط تحقيق الاستقرار الداخلي المنشود، بل تشكل أيضًا ورقة قوة رابحة في أي مفاوضات مع الأطراف الخارجية، إذ تمنح سوريا مناعة سياسية ضد الضغوط والشروط المجحفة التي قد تفرض من الخارج.
المصالحة الوطنية: من شعار إلى برنامج عمل
المصالحة الوطنية ليست مجرد خطاب سياسي للاستهلاك الإعلامي، بل هي برنامج عمل متكامل يتطلب خطوات عملية وملموسة:
- آلية واضحة وشفافة للحوار الشامل، تشمل جميع الأطراف المعنية، بمن فيهم أولئك الذين كانوا على طرفي النزاع.
- تدابير بناء الثقة المتبادلة، مثل الإفراج الفوري عن المعتقلين السياسيين، والكشف عن مصير المفقودين والمغيبين قسرياً.
- إطلاق مشاريع اقتصادية مشتركة تهدف إلى إعادة دمج المجتمعات المحلية المتضررة، وتوفير فرص عمل للشباب.
إن تحويل هذه الأفكار الطموحة إلى إجراءات ملموسة وواقعية هو ما سيمنع البلاد من الانزلاق إلى حرب أهلية جديدة، ويمنح المرحلة الانتقالية الحالية فرصة حقيقية للنجاح وتحقيق السلام الدائم.
صحيح أن سوريا اليوم تحولت إلى ساحة مفتوحة للمنافسات الإقليمية والدولية الشرسة، لكن ميزان القوى الحالي لا يسمح لأي طرف بفرض حل نهائي منفرد يخدم مصالحه فقط. هذه الحقيقة تمنح السوريين مساحة للمناورة إذا ما أحسنوا استغلالها بحكمة وتعقل.
الرهان على انتظار توافق القوى الكبرى وحده هو رهان خاسر بكل المقاييس، لأن هذه القوى ترى الملف السوري كجزء من صفقات أوسع وأكثر تعقيداً، تمتد من الحرب في أوكرانيا إلى التنافس المحتدم في بحر الصين الجنوبي.
وإذا فشل السوريون في استثمار هذه المرحلة الحرجة، فستبقى البلاد رهينة التفاهمات الخارجية الهشة والتقلبات الإقليمية والدولية، وستتآكل فرص إعادة الإعمار والتنمية المستدامة نتيجة انعدام الاستقرار وتفاقم حالة الفوضى، وسيتفاقم خطر التقسيم الفعلي على الأرض.
أما إذا نجحنا في بناء عقد اجتماعي جديد وعادل، فإن ذلك سيشكل أساساً متيناً لتحويل سوريا من مجرد "ملف تفاوضي" إلى "دولة ذات سيادة حقيقية" قادرة على حماية مصالحها والدفاع عن حقوقها.
الانتقال من مرحلة "إدارة الأزمة" الراهنة إلى "صناعة الحل" المستدام يتطلب إرادة سياسية جريئة وشجاعة، ورؤية إستراتيجية واضحة المعالم، واستعداداً لتقديم تنازلات وطنية متبادلة تصب في مصلحة الوطن العليا.
سوريا اليوم تقف أمام مفترق طرق حاسم: إما أن تبقى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، أو أن تتحول إلى دولة قوية تفرض شروطها وتملك زمام قرارها. الخيار الثاني ليس مستحيلاً، لكنه يحتاج إلى لحظة وعي وطني صادقة، وإجماع حقيقي على أن المستقبل المشرق يصنعه السوريون أنفسهم، ولا يمنح لهم على طبق من ذهب من الخارج.